المربع نت – في سبعينات القرن الماضي، واجهت صناعة السيارات الأمريكية أكبر أزمة في تاريخها حتى ذلك التوقيت.. بعد تدهور غير مسبوق للأرباح والمبيعات، ما أدى لتسريح أكثر من 300,000 عامل في مصانع السيارات الأمريكية بحلول 1978.
من العوامل التي ساهمت في تلك الأزمة هو انتشار السيارات اليابانية في السوق الأمريكي لأول مرة بشكل حقيقي، وخاصة سيارات هوندا ونيسان وتويوتا، وإقبال المستهلكين عليها بفضل أسعارها الأرخص من الموديلات الأمريكية، واعتماديتها وأدائها الجيد، وبفضل ذلك ارتفعت مبيعات السيارات اليابانية في أمريكا من 700,000 سيارة فقط في بداية عقد السبعينات إلى أكثر من 1.9 مليون سيارة بحلول 1980، ما منح الشركات اليابانية حصة 23% تقريباً من السوق الأمريكي.
بالطبع كل هذا مثّل تهديداً مباشراً لشركات السيارات الأمريكية والتي ضغطت على الحكومة للتدخل وحماية الصناعة المحلية، وهو ما تم بالفعل عبر سلسلة اتفاقيات بين أمريكا واليابان لتقييد واردات السيارات اليابانية للسوق الأمريكي مع زيادات مدروسة في الضرائب الجمركية، وهي خطوة كررتها الدول الأوروبية كذلك لحماية صناعة السيارات الأوروبية من التهديد الياباني آنذاك.
شركات السيارات اليابانية لم تقبل بهذا الوضع التجاري والسياسي، وقررت استثمار مليارات الدولارات لبناء مصانع داخل الولايات المتحدة وأوروبا لتفادي الضرائب الجمركية وأي قيود على التصدير، وفي عام 1982، احتفلت هوندا بافتتاح أول مصنع لشركة سيارات يابانية في أمريكا لإنتاج سيارات اكورد المحبوبة، وتبعه عدد كبير من مصانع نيسان وتويوتا وشركات يابانية أخرى على مدار الثمانينات والتسعينات.
بفضل هذه الاستراتيجية، تمكنت شركات السيارات اليابانية من اختراق السوق الأمريكي بشكل كامل ومزاحمة الشركات الأمريكية بل والتفوق عليها.. والنتيجة المذهلة هي أن شركة تويوتا في عام 2021 تجاوزت جنرال موتورز لأول مرة على الإطلاق لتكون أعلى شركة سيارات مبيعاً في أمريكا.
والآن يبدو أن التاريخ يحاول تكرار نفسه.. هذه المرة مع لاعب جديد في الساحة: الصين.. والتي ترغب في اكتساح العالم بسياراتها الرخيصة العملية عالية الكفاءة، ومزاحمة الأوروبيين والأمريكيين في عقر دارهم.
في هذا التقرير سنوضح جوانب الحرب التجارية التي بدأت بالاحتدام بين أوروبا وأمريكا من طرف وصناعة السيارات الصينية من طرف آخر.. والحلول التي بدأت الشركات الصينية بتطبيقها في محاولة للانتصار في هذه الحرب وتكرار النجاح الواسع لشركات السيارات اليابانية في الثمانينات والتسعينات.
الوصول السريع للمحتوى
فلسفة صناعة السيارات الصينية: اصنع أولاً، وابحث عن مشتري لاحقاً
ربما أهم عامل يميز صناعة السيارات في الصين عن باقي الدول أنها ملتزمة بجدول وحصص إنتاجية محددة تفرضها الحكومة الصينية على جميع الشركات التابعة لها، بما يشمل معظم شركات السيارات الرئيسية في الصين.
على سبيل المثال، في عام 2024، حددت الحكومة الصينية هدفاً للنمو الاقتصادي بـ 5%، ولتحقيق هذا الهدف، لابد من إكمال حصص الإنتاج المطلوبة في جميع المصانع الحكومية بما يشمل مصانع السيارات، بغض النظر عن وجود مشتري فوري للمنتجات من عدمه.
نتيجة ذلك أن صناعة السيارات الصينية في وضع غريب وغير تقليدي حالياً.. بسبب توافر سعة إنتاجية أوسع بكثير من الطلب المحلي على السيارات، والحل الوحيد للتخلص من هذا الفائض الهائل هو اختراق الأسواق العالمية بمنتجات تنافسية في السعر والمواصفات.
ورأينا خلال الأعوام العشرة الماضية مرحلة انتشار وتوسع هائل من شركات السيارات الصينية في أسواق عالمية مختلفة بداية من أستراليا وفيتنام وإندونيسيا، مروراً بالشرق الأوسط وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.. وبالطبع، الجائزة الكبرى هي السوق الأوروبي المغري بأرباحه الوفيرة والطلب المرتفع على السيارات هناك.
بالنسبة للأسواق التي لا تحتوي على صناعة سيارات محلية مثل أستراليا والشرق الأوسط، فلا توجد أي مخاوف هنا.. بل إن توافر السيارات الصينية سيدعم المنافسة الحرة في سوق السيارات وقد يجبر المنافسين على خفض الأسعار أو تقديم مواصفات أفضل للبقاء في المنافسة.
المشكلة بالطبع عند محاولة الشركات الصينية لاختراق أسواق تحتوي على صناعة سيارات محلية عريقة، مثل أوروبا والولايات المتحدة.. والنتيجة هي مخاوف الحكومات المحلية من خسارة الوظائف والأرباح لشركات أجنبية قادرة على منافسة الموديلات المحلية بقوة من ناحية السعر والمواصفات.
أوروبا وأمريكا تتدرّعان بالضرائب الجمركية لحماية الصناعة المحلية من الفيضان الصيني
خلال الأشهر الأخيرة، بدأ الاتحاد الأوروبي بمناقشة مقترحات فرض ضرائب جمركية قاسية على السيارات الصينية المستوردة، وخاصة السيارات الكهربائية بعد توسع غير مسبوق لهم في السوق الأوروبي على حساب الشركات المحلية مثل فولكس واجن وستيلانتس ورينو.
وبالفعل في يونيو 2024، أعلن الاتحاد الأوروبي عن فرض ضرائب جمركية تتراوح بين 18% و38% على السيارات الصينية الكهربائية المستوردة.. مع اختيار نسبة الضرائب بناء على درجة الدعم الحكومي الذي تقدمه حكومة الصين لصانعات السيارات، وبناء على درجة تعاون الشركات الصينية مع السلطات الأوروبية أثناء التحقيق في الأمر.
بعض الشركات الصينية مثل سايك SAIC رفضت التعاون المفتوح ومشاركة البيانات مع الاتحاد الأوروبي، لذا ستواجه الشركة ضرائب تصل إلى 38.1%، بينما شركات أخرى مثل جيلي ستواجه ضرائب إضافية 20%.
ولكن الضرائب الأوروبية خفيفة مقارنة بالحرب الشعواء التي شنتها حكومة الرئيس الأمريكي جو بايدن مؤخراً.. والتي بدأت برفع الضرائب على السيارات الصينية المستوردة من 25% إلى 100% دفعة واحدة.
ولم يكتف جو بايدن بذلك، إذ أعلن كذلك عن مقترح بالغ التشدد والصرامة لحظر أي سيارة جديدة مزودة بتقنيات صينية وخاصة في مجالات القيادة الذاتية والاتصال الإلكتروني والواي فاي.. ما يعني فعلياً حظر جميع السيارات الصينية في السوق الأمريكي، بالإضافة لحظر عدد من الموديلات الأوروبية والأمريكية المزودة بتقنيات صينية مثل سيارات فولفو، وهذا في حالة تم التصديق على المقترح بشكل نهائي.
الوضع يبدو حالكاً للشركات الصينية، وخاصة في الولايات المتحدة.. ولكن يوجد أمل، خاصة في أوروبا، وقد بدأت شركات السيارات الصينية بالفعل برسم خطط للتحايل على هذه الضرائب واختراق الأسواق الأوروبية، كما فعلت الشركات اليابانية منذ عدة عقود.
الشركات الصينية ستتحول إلى شركات أوروبية، أو ربما العكس؟
في سبتمبر 2024، صرح المدير التنفيذي لمجموعة ستيلانتس، كارلوس تافاريس: “لابد أن نتبنى العقلية الصينية في أسلوب إنتاجنا وبيعنا للسيارات.. لابد أن نصبح صينيين أنفسنا”، وهي إشارة إلى قدرة الشركات الصينية على بيع سيارات أرخص بكثير من المنافسين في أوروبا بمواصفات مغرية للمستهلك الأوروبي.
هذه ليست مجرد تصريحات خاوية من رئيس ستيلانتس، إذ قامت ستيلانتس بشراء حصة 21% في شركة سيارات كهربائية صينية صاعدة باسم Leapmotor، والأهم من ذلك أن ستيلانتس ستقوم بإنتاج سيارات Leapmotor داخل أوروبا في مصنع ستيلانتس بمدينة Tychy البولندية، وفي المقابل، سيتم مشاركة التكنولوجيا الكهربائية التي طورتها Leapmotor على مدار الأعوام الماضية مع ستيلانتس.
هذه خطوة بالغة الأهمية لأنه أول تطبيق فعلي لسيارات صينية يتم إنتاجها داخل أوروبا، ما يعني عدم تعرضها لأي ضرائب جمركية أو تكاليف الشحن البحري.. والأفضل من ذلك، أن سيارات Leapmotor الصينية الآن قادرة على استلام الدعم الحكومي في أوروبا للسيارات الكهربائية، مثلها مثل أي سيارة أوروبية.
هذه مجرد البداية لاستراتيجية واسعة بدأت شركات السيارات الصينية بتطبيقها للتوسع في السوق الأوروبي وتجنب الضرائب الجمركية القاسية.. ومن أبرز الأمثلة الأخرى هي شراء شركة شيري لمصنع نيسان السابق في برشلونة، واستثمار أكثر من 400 مليون يورو لبدء إنتاج سيارات اومودا 5 ضمن موديلات أخرى قادمة من شيري.. ما يجعله أول مصنع صيني للسيارات داخل القارة الأوروبية.
شركة بي واي دي هي أكبر صانعة سيارات صينية حالياً في السوق الصيني المحلي، ومن المتوقع أن تتجاوز تيسلا قريباً لتكون أكبر صانعة للسيارات الكهربائية في العالم.. والسوق الأوروبي بالغ الأهمية والإغراء للشركة، ولكن المعضلة الآن هي فرض الاتحاد الأوروبي لضريبة جمركية تقترب من 18% على سيارات بي واي دي الكهربائية المستوردة.
واتخذت بي واي دي الحل المنطقي والوحيد في هذه الحالة، وهو الإعلان عن بناء مصنع جديد لسياراتها في المجر، ضمن اتفاقية تعاون تكنولوجي واقتصادي واسعة بين الحكومة المجرية والصينية.. وعند اكتمال عمليات البناء، سيكون أول مصنع تبنيه شركة صينية من الصفر داخل الاتحاد الأوروبي، مع العلم أن بي واي دي تجهز لبناء مصنع ثاني خلال العامين القادمين.
سباق محموم من الحكومات الأوروبية لجذب الاستثمارات الصينية
الوضع المدهش حالياً هو أن الحكومات الأوروبية المختلفة بدأت بتقديم حوافز ضريبية مختلفة لتشجيع شركات السيارات الصينية على القدوم وبناء مصانع داخل أراضيهم.. والتركيز هنا على دول جنوب وشرق أوروبا بشكل خاص لرخص العمالة بشكل نسبي مقارنة بدول شمال أوروبا الأغلى بكثير.
على سبيل المثال دولة المجر، والتي تحدثنا عن بناء مصنع بي واي دي فيها بالأعلى، تعقد مفاوضات حالياً مع شركة جريت وول موتورز الصينية لإقناعها ببناء مصنع للسيارات داخل الأراضي المجرية، مع إغرائها بتخفيضات واسعة للضرائب، ودعم حكومي مباشر لعمليات الإنتاج.
بولندا هي الأخرى أعلنت عن استثمارات بقيمة 10 مليار يورو لجذب الشركات الأجنبية، وعلى رأسهم الشركات الصينية، لإنتاج موديلاتها داخل بولندا، وخاصة في المناطق بنسبة بطالة مرتفعة.
إيطاليا بدأت مفاوضات مماثلة مع عدد من أهم شركات السيارات الصينية، وأبرزهم شيري ودونغ فينغ، لفتح مصانع إيطالية جديدة، وتجهز الحكومة الإيطالية حزمة تمويلية بقيمة 6 مليار يورو لتشجيع الشركات الصينية على نقل خطوط الإنتاج إلى إيطاليا.
مجموعة سايك، أحد أهم وأكبر شركات السيارات الصينية، بدأت مفاوضات مماثلة مع إسبانيا وإيطاليا وألمانيا لبناء مصنعين جديدين بسعة إنتاجية تتجاوز ربع مليون سيارة سنوياً.
ولا يقتصر الأمر على المصانع داخل أوروبا فقط، إذ بدأت شركات السيارات الصينية بافتتاح مصانع أخرى خارج الصين، مثل مصنع شيري الجديد في دولة فيتنام بقيمة 800 مليون دولار، ما يعني أن صادرات المصنع قادرة على دخول السوق الأوروبي بدون القيود الجمركية المرتفعة على السيارات المصنعة في الصين.
ماذا عن الولايات المتحدة؟.. هل يوجد أمل للشركات الصينية هناك؟
أثبتت الولايات المتحدة سداً منيعاً ضد الفيضان الصيني خلال الأعوام الماضية بسبب القيود الصارمة جداً على واردات السيارات الصينية هناك، وذكرنا بالأعلى بعض القرارات الحادة التي اتخذتها حكومة الرئيس الأمريكي جو بايدن مؤخراً لردع الشركات الصينية ومنعهم من اقتحام السوق الأمريكي.
مؤخراً، بدأت شركات السيارات الصينية مفاوضات مع الحكومة المكسيكية لبناء مصانع في المكسيك وتصدير السيارات مباشرة للسوق الأمريكي.. ولكن تراجعت الحكومة المكسيكية عن المفاوضات بعد ضغط سياسي حاد من الولايات المتحدة.
مع ذلك ليست كل الطرق مسدودة في المستقبل.. وأبرز مثال على ذلك هو الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، والذي اشتهر بمعاداته الصريحة للمنتجات الصينية وتهديده بمنعها أو إيقاف وارداتها كلياً للسوق الأمريكي.
ولكن حتى ترامب نفسه أعلن في تصريحات أخيرة عن ترحيبه بالسيارات الصينية بشرط واحد رئيسي، وهو بناء هذه السيارات داخل الولايات المتحدة، وفي هذه الحالة، تعهد ترامب بتقديم دعم مباشر لها وتخفيضات ضريبية إذا تم انتخابه مرة أخرى للرئاسة الأمريكية.
هل من الممكن تكرار التجربة اليابانية الناجحة؟
من الواضح أن السيارات الصينية قادرة على اكتساح الأسواق العالمية وجذب قطاع كبير من المستهلكين لصفها، تماماً كما فعلت الشركات اليابانية منذ عدة عقود .. وقد تابعنا تصريحات من المدير التنفيذي لفورد، جيم فارلي، والذي قام بزيارة المصانع الصينية مؤخراً ووصف السيارات الصينية بـ “خطر وجودي” على الشركات الغربية، في إشارة إلى قدرتها المدهشة على المنافسة.
تكرار النجاح الياباني لن يكون سهلاً على الإطلاق وسيتطلب استثمارات هائلة في شبكة مصانع وخطوط إنتاج عالمية بعيداً عن الصين.. وهو أمر ممكن ولكن سيتطلب وقتاً وخططاً استراتيجية محكمة على مدار العقدين القادمين، لإقناع أوروبا والولايات المتحدة بشكل خاص أن السيارات الصينية ليست عدواً لهم، بل حليف محتمل وداعم للنمو الاقتصادي المحلي وأداة لتوظيف آلاف العمال الأوروبيين والأمريكيين، تماماً كما فعلت الشركات اليابانية.
اشترك بالقائمة البريدية
احصل على أخبار وأسعار السيارات أول بأول