
المربع نت – كانت السيارة عبر عقود أقرب إلى جواز مرور للبلوغ. امتلاكك لأول سيارة كان يعني أنك خرجت من عباءة العائلة، صرت مستقلاً، تتحكم في وقتك وفي مسارك وفي حياتك تقريباً. رحلة شراء سيارة مستعملة أولى، تعلم القيادة، السهر في الورش، توفير المال… كلها كانت علامات انتقال من المراهقة إلى عالم الكبار. لكن هذا المشهد يبدو غريباً اليوم على جيل كامل من الشباب، جيل صار ينظر للسيارة كقطعة تكنولوجية أخرى في حياته، لا أكثر ولا أقل.
المفارقة أن السوق نفسه لم يكن يوماً أكثر تنوعاً مما هو عليه الآن. سيارات كهربائية فائقة، تصميمات جذابة، تقنيات سلامة متطورة، قوة هائلة، ورفاهية كانت حكراً على الأثرياء. ومع ذلك، الحلم تلاشى. السؤال الحقيقي إذن: ماذا حدث؟ كيف وصلنا إلى جيل كامل لا يرى في السيارة سوى صندوق معدني يتحرك بضغطة زر؟
الوصول السريع للمحتوى

جيل لا يبحث عن الحرية عبر السيارات
القيادة كانت رمزاً للاستقلال. كان الطريق هو الحيز الوحيد الذي فيه الشاب يتخذ كل قرار بنفسه. لكن اليوم، مفهوم الحرية نفسه تغيّر. الجيل الجديد يجد استقلاله في الهاتف، في الإنترنت، في العمل الحر عن بُعد، في القدرة على العيش بدون مكان ثابت. الحرية لم تعد مرتبطة بالمسافة، بل بالاتصال. وبالتالي، السيارة لم تعد “وسيلة للهرب”، بل “عبئاً” ثقيلاً يحتاج تأميناً وصيانة ووقوداً ورسوماً.
والأهم، هو أن المدن تغيرت. الرحلات القصيرة، الاكتظاظ، غياب مساحات القيادة الممتعة، اختفاء الطرق المفتوحة داخل المدن الحديثة… كلها عوامل جعلت تجربة القيادة اليومية أقرب إلى العناء منها إلى المتعة. الجيل الجديد ولد داخل هذه المدن، وبالتالي لم يختبر أصلاً ذلك الشعور الرومانسي الذي عرفته الأجيال السابقة.
شاهد أيضاً:
الاقتصاد يفرض منطقه
هناك عامل لا يمكن تجاهله: التكلفة. السيارات أصبحت أغلى من أي وقت مضى، سواء سعر الشراء أو التشغيل. البنزين، الصيانة، الإطارات، التأمين… كلها تستهلك ميزانيات أكبر، في وقت يعاني فيه الشباب من ضغوط اقتصادية خانقة. فمقارنة بسيطة بين مرتب شاب حديث التخرج وسعر سيارة جديدة كافية لتفسير كثير من الفتور.
وفي المقابل، ظهرت بدائل “معقولة” بالنسبة لهم: سيارات الأجرة عبر التطبيقات. تكلفة ببضعة ريالات تنقلهم من نقطة إلى أخرى بدون أي صداع. هذا الخيار قضى على الفكرة القديمة أن “من لا يقود لا يعيش”. على العكس، الجيل الجديد يستطيع الحركة أكثر وأسرع بدون قيادة.
التكنولوجيا أعادت تعريف السيارة

السيارة بالنسبة لقطاع كبير من الجيل الحالي ليست “آلة” وإنما “خدمة”. لم يعد مهماً صوت المحرك ولا خصائص التعليق ولا متعة الانعطاف… بل حجم الشاشة، سرعة النظام الترفيهي، التكامل مع الهاتف، وجود أوامر صوتية، تحديثات هوائية. الشغف الميكانيكي اختفى تقريباً.
وحتى في عالم السيارات نفسها، تغيرت اللغة. الشركات تتحدث عن الذكاء الاصطناعي، القيادة الذاتية، البطاريات، الاشتراكات الشهرية داخل السيارة. بالنسبة لجيل نشأ وسط عالم رقمي، السيارة أصبحت امتداداً طبيعيًا للهاتف، وبالتالي فقدت هويتها التي ميزتها لعقود.
تغيّر الحلم… فتغيّرت العلاقة
الأجيال السابقة حلمت بالطريق المفتوح. الجيل الجديد يحلم بالاستقرار المالي، بالسفر الجوي الرخيص، بالعمل عن بُعد، بالترفيه الرقمي. السيارة لم تعد أداة لتحقيق هذا الحلم. وفي كثير من الأحيان، السيارة تعيق هذا الحلم لأنها تستهلك المال والوقت والمجهود.

والأهم من ذلك، هو أن ثقافة السيارات نفسها لم تعد كما كانت. اختفت الصحف التي كانت تكتب عن السيارات، تراجع تأثير برامج السيارات، حتى النوادي والورش الشعبية فقدت دورها. الجيل الجديد لم يتربَّ على فكرة “الانجذاب” للسيارة من الأساس.
ماذا يعني ذلك لمستقبل السيارات؟
الشركات تدرك جيداً أن الجيل الجديد ليس مجرد مستهلك، بل هو مستقبل السوق. لذلك نرى سباقاً محموماً على تحويل السيارة إلى منصة تقنية. مقاعد تدور، شاشات عملاقة، أنظمة قيادة شبه ذاتية، محتوى ترفيهي داخلي… كلها محاولة لتعويض الشغف المفقود بشيء آخر.
لكن الحقيقة التي لا يريد أحد الاعتراف بها هي أن السيارة كرمز ثقافي فقدت مكانتها. لم تعد جزءاً من الهوية الاجتماعية للشباب. لم تعد الجائزة الكبرى بعد سنوات من التعب. أصبحت خياراً وظيفياً… أو عبئاً عند كثيرين.
السؤال المحوري هنا، هل ستستطيع الشركات إعادة سحر السيارات؟ هل يمكن للجيل الجديد أن يعيد اكتشاف القيادة كما عرفتها الأجيال السابقة؟ أم أننا أمام بداية عصر جديد، فيه السيارة ليست شريكاً في الحياة، بل مجرد “أداة” مثل أي جهاز آخر؟
الإجابة ليست واضحة بعد. لكن ما نعرفه يقيناً هو أن علاقتنا بالسيارات تمر بأكبر تحول ثقافي منذ اختراع السيارة نفسها، وتحليل هذا التحول هو أول خطوة لفهم مستقبل قد يكون مختلفاً تماماً عما عرفناه.


اشترك بالقائمة البريدية
احصل على أخبار وأسعار السيارات أول بأول



















